تمهيد: ان موضوع الأخلاقيات المهنية من المواضيع التي حظيت باهتمــــــــــام متزايد خلال السنوات الأخيرة، وصارت لمكافحة الفساد أهميــــة عالمية بالغـــــة، نظرا لعدة أسباب في مقدمتها تزايد الاهتمام العالمي عموما بقضايا الأخلاق (هناك ارتفاع في منسوب الوعي العالمي بأهمية الأخلاق) وخاصة في مجال مسؤولية الإنسان على ما يحدث في البيئة وبروز الحاجة إلى أخلاق توجه سلوكاتنا.
ومن بين الأسباب التي أدت إلى الاهتمام بأخلاقيات المهنة ،ظهور إشكاليات جديدة وشديدة التعقيد في الممارسات المهنية ،وبروز الحاجة الملحة إلى بعث أخلاق مهنية سواء بالنسبة لمـــــا يسمى بمهن المستقبل أو حتى المهن التقليديــــــة ومثاله في تخصصات حساسة كالأخلاق الطبية، أخلاق القضاء، أخلاق الهندسة كذلك في التربية والتعليم بحيث لا يمكن لهذه التخصصات أن تستمر وتجنب ضررها إلا بوجود مواثيق أخلاقية.
ومن الأسباب أيضا وراء الاهتمام بأخلاقيات المهنة نجد النقد الموجه للإدارات لمختلف المهن والمعايير التـــــــــي تعتمدها بعيـــدا عن الإطار الأخلاقــــــــــي. حيث أن تنمية الالتزام بالمثل والقيم الأخلاقيــــة والاعتبارات القانونية والسلوكيات الايجابية تعتبر من الفلسفات الرئيسية التي ينبغي وضعها فــــي المقام الأول ، وأن تسير في فلكها جميع الفلسفات الأخرى المنشودة التي توصل الجميع نحو تحسين الأداء وبالتالي تحسين رفاهية المجتمع.
ومنه تهدف المادة إلى:
- تعريف الطلبة (السنة الثانية ليسانس) بالأخلاقيات المهنية الواجب التحلي بها، بمفهومها الديني، اللغوي، العلمي والعملي، و تشمل الأخلاقيـــــــات كل المهن والوظائف، وذلك من اجل إكساب الطلبة القواعد الأخلاقية المهنية التي تعزز التزامهم بها، في مجال عملهم بعد التخرج.
- تمكين الطالب من معرفة أخلاقيات المهنة بعمق وأهميتها الوظيفية والاجتماعية والاقتصادية والمالية وجعله واحدا من الجنود في مكافحة الفساد.
الجذور التاريخية لأخلاقيات المهنة والعوامل التي ساعدت في نشأته (للمزيد أنظر بوعلام سعدية، محاضرات في اخلاقيات المهنة موجهة لطلبة الفنون، جامعة وهران1)
إن الأخلاقيات وهي مجموعة القيــــــم التي تميـــــــز ما هو جيد عمــــــــا هو سيئ ظهرت مع الإنسان منذ البدء، واستمرت معه إلى وقتنا الحاضر، و ستلازمه طالمــــــــا ظلت هناك حياة على سطح المعمورة. ومن منظور التراث الغربي يعود تطور النظرية الأخلاقية إلى أفلاطون (427-347 قبل الميلاد) وتعود جذور كلمة Ethics بمعنى (أخلاق ) إلى الكلمة اليونانية (Ethos) ،والتي تعني العادات والسلوك أو الصفات (بودراع أمينة، دور أخلاقيات الأعمال في تحسين أداء العاملين ، 2013) .
أولا/الحضارة البابلية׃ تعتبر الحضارة البابلية أول محطة في مسار الأخلاقيات عبر التاريخ إذ تعد مدونة حمو رابي أقدم مدونة قانونية وجدت منذ أكثر من أربعة ألاف سنة في وادي الرافدين، وقد تضمن هذا القانون 282 مادة ،اشتملت علـــــى إرشادات وقواعد للتجـــــار وواجبات المهنيين كالبنائين والأطبــــاء وغيرهم، وكذلك العقوبــــــات المترتبـــــة علـــــــى عدم الالتـــــــــــزام بهذه الواجبات بشكل صحيح، ( نجم عبود نجم أخلاقيات الإدارة في عالم متغير،2000) .
وبذلك يعتبر البابليون أول من اهتم بالأخلاق المهنية للبنائين والأطباء وغيرهم ، وهي المهن التي انتشرت آنذاك ، وهو ما دل على وعي الإنسان منذ القدم بضرورة تقنين الأخلاق المهنية.
ثانيا/الحضارة الرومانية׃ ترجع أصالة الرومان في تفكيرهم الاجتماعي والسياسي إلى الدور الكبير الذي لعبتـــــــه روما في تطبيق المبادئ القانونيـــــــــة والسياسية والإدارة العامة تطبيقا عمليا في الشعوب التي أخضعوها إليهم ، ولهذا اتصفوا بالصرامة في الخلق، وقوة العزيمة وخضوع تصرفاتهم لنظام دقيق في ظل القانون .
وقد أقام الرومان أنساقا من القوانين يستلزم احترامها، اعتبرت مقياسا للتنظيم الاجتماعي في العالم الذي عرفوه، هدف الجميع فيها تأدية الواجب مما يؤدي إلى العظمة وسيادة الوطن والذي يصبح محور جميع القيم ، فالإنسان كان يعمل من اجل هذا الوطن خاضعا لقوانينه والتي تحكم تصرفاته في الأسرة والمجتمع والعمل .
ولم يعزف رجـــــــال الفكر والسياسة في روما عن تناول مــــــا هو مثالي، وما ينبغي أن يكون عليه المجتمع والإنسان كما فعل رجال الفكر اليونانيين، وإنما اتجهوا إلى الملاحظة ووصف أخلاق الرجال ودوافعهم وتحليل نفسيتهم في محيط الواقع ، حيث أن الدولة كي يكتب لها البقـــــــاء عندهم لابد أن تلتزم بالالتزامات والحقوق المتبادلة ،والتي تربط بين المواطنين وفي ضوء هذا فالدولة مجتمع أخلاقي، أو جماعــــــــة من الأشخاص الذين يمتلكون الدولة وقوانينها ملكية مشتركة ، وهي توحد لتحقق للناس مزايا المعونة المتبادلة والحكم العادل .
ويستخلص من ذلك أن نظرة الرومانيين كانت تتوسع لتتجه إلى العالمية وفكرة الدولة العظمى فيشقى الإنسان من اجل عظمــــــــة هذا الكيــــــان الذي يكون هدفه الأسمـــــــى العدالة وتحقيق سعادة هذا الإنسان الذي يجب أن يسمو بأخلاقه كلها بدءا من الأسرة والعمل والمجتمع لتحقيق الأهداف المشتركة للإنسان ودولته .
ثالثا/الشرائع السماوية׃ كان المجتمع قبل نزول الشرائع السماوية يعيش حالة من الفوضى والفساد، فلا قانون ولا عدل، ولا أمن ولا نظام ،وجاءت الديانات لعلاج هذا المجتمع، ووضع حد للفوضى التـــــي تنحر فـــــــــي البناء الاجتماعي، وتغيير الاتجاه نحو الخير، والقضاء على الفســاد الذي كان سائدا منذ بدء التاريخ لفســـــاد النظم الاقتصاديـــــــــة والسياسية والطبقية التي كانت آنذاك.
وسنستعرض فيما يلي لنظرة الديانات اليهودية، المسيحية، والإسلام للأخلاق، وبالتالي الأخلاقيات المهنية للفرد في المجتمع.
رابعا/الشريعـــــة اليهوديـــــة׃ لقد جاءت الشريعة اليهودية للقضاء على الفوضى والفساد الذي كان سائدا قبل ظهورها فقد جاءت شريعـــــــة موسى عليـــــه السلام شاملــــــة بعض المبادئ التي تعطــــــي الفرد قيمته وتدعو إلــــــى رعايـــــة المرضى،وتحث على الاتحاد، وتطرقت إلى الثروة وحث الناس على النظافة،واعتبرت الاتحاد عماد الحياة الاجتماعية.
أما بخصوص الأعمال التجارية، فقد كانت السائدة عند اليهود منذ القدم، وكان إقراض الأموال بفائدة مقبولا. وغير محظور عند اليهود، كما كان جمع الثروة واكتنازها سلوكا يهوديا مألوفا.
وقد ارتبطت اليهودية التلمودية بالربا في أوروبا خلال الفترة الممتدة إلى الثروة الفرنسية وارتبطت صورة اليهودي بصورة المرابــــي عبر التاريخ وهـــي الصورة التي خلدها شكسبير في شخصية شلوك في مسرحية تاجر البندقية، حيث كان اليهود يتقاضون فوائد تراوحت بين 3,25 % إلى 2,20 %. (حسين عبد الحميد احمد رشوان، تطور النظم الاجتماعية وأثرها على الفرد والمجتمع، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية 1993 ،ص 201) .
خامسا/الأخلاقيات المهنية في الإسلام ׃ تطبع العرب في الجاهلية بدافع الفطرة السلمية إلـــــــى الكثير من الفضائل التي كانوا يتواصون بها، ويتوارثون ،وتمثلت المثل العليا عند العرب في المروءة،الرأفة،الرحمة الشجاعة في القتال والصبر على الشدائد،والإصرار على الثار وحماية الضعيف، والكرم، والإيثار إلى أن جاء الإسلام فغير حياتهم كما غير حياة البشرية .
وتميزت الأخلاق الإسلامية عن الأخلاق التي تبنتها الفلسفات المختلفة، فالإسلام له نظامه الأخلاقي وفضائله الخاصة عن الأخلاق الفلسفية، فغاية الأخلاق في الإسلام ليست اللذة أو السعادة بل السعادة الأخروية من خلال المنفعة العامة الدنيوية، التي تصون الروح وتعنى الجسد. فأخلاق المسلمين نابعة من القران والسنة والإجماع والقياس، وقد راع الرسول صلى الله عليه وسلم الآداب، فقد كان مثالا أعلى لها. وعمل على تأديب أمته بها، وقد أثنى الله تعالى عليه في قوله ׃ " وانك لعلى خلق عظيم "سورة القلم الآية 04.
والأخلاق عند المسلمين هي وسط عدل، فهي المواكبة للطبيعة الإنسانية ففي قوله تعالى׃"وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " سورة البقرة 143.
فالإسلام دين الوسطية، حيث حقق الربط بين الخلق والعمارة، والربط بين الدنيــــا والآخرة فــــي قوله تعالى׃"ابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا "سورة النور،الاية37.